الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{فَلَمَّا خَرَّ} أي سقط {تَبَيَّنَتِ الجن} أي علمت بعد التباس أمر سليمان من حياته ومماته عليهم {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين} أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته زمن وقوعه فلم يلبثوا بعده حولًا في الأعمال الشاقة إلى أن خر، والمراد بالجن الذين علموا ذلك ضعفاء الجن وبالذين نفى عنهم علم الغيب رؤساؤهم وكبارهم على ما روي عن قتادة، وجوز عليه أن يراد بالأمر الملتبس عليهم أمر علم الغيب أو المراد بالجن الجنس بأن يسند للكل ما للبعض أو المراد كبارهم المدعون علم الغيب أي علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم وأنهم لا يعلمون الغيب، وهم وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم لكن أريد التهكم بهم كما تقول للمبطل إذا دحضت حجته هل تبينت أنك مبطل.وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبينًا.وجوز أن يكون تبين بمعنى بان وظهر فهو غير متعد لمفعول كما في الوجه الأول فإن مفعوله فيه {أَن لَّوْ كَانُواْ} الخ وهو في هذا الوجه بدل من {الجن} بدل اشتمال نحو تبين زيد جهله، والظهور في الحقيقة مسند إليه أي فلما خر بان للناس وظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب، ولا حاجة على ما قرر إلى اعتبار مضاف مقدر هو فاعل تبين في الحقيقة إلا أنه بعد حذفه أقيم المضاف إليه مقامه وأسند إليه الفعل ثم جعل {أَن لَّوْ كَانُواْ} الخ بدلًا منه بدل كل من كل والأصل تبين أمر الجن أن لو كانوا الخ، وجعل بعضهم في قوله تعالى: {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} الخ قياسًا طويت كبراه فكأنه قيل لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين لكنهم لبثوا في العذاب المهين فهم لا يعلمون الغيب، ومجىء تبين بمعنى بان وظهر لازمًا وبمعنى أدرك وعلم متعديًا موجود في كلام العرب قال الشاعر:
وقال الآخر: وفي البحر نقلًا عن ابن عطية قال: ذهب سيبويه إلى أن {إن} لا موضع لها من الأعراب وإنما هي منزلة منزلة القسم من الفعل للذي معناه التحقيق واليقين، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب لو اه فتأمله فإني لا أكاد أتعقله وجهًا يلتفت إليه.وفي أمالي العز بن عبد السلام أن الجن ليس فاعل {تَبَيَّنَتِ} بل هو مبتدأ {وَإِنَّ لُوطًا كَانُواْ يَعْلَمُونَ} خبره والجملة مفسرة لضمير الشأن في {تَبَيَّنَتِ} إذ لولا ذلك لكان معنى الكلام لما مات سليمان وخر ظهر لهم أنهم لا يعلمون الغيب وعلمهم بعدم علمهم الغيب لا يتوقف على هذا بل المعنى تبينت القصة ما هي والقصة قوله تعالى: {الجن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين}. اهـ.والعجب من صدور مثله عن مثله، وما جعله مانعًا عن فاعلية {الجن} مدفوع بما سمعت في تفسير الآية كما لا يخفى، وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه قرىء {تَبَيَّنَتِ الجن} بالنصب على أن تبينت بمعنى علمت والفاعل ضمير الإنس {والجن} مفعوله، وقرأ ابن عباس فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه {تَبَيَّنَتِ} مبنيًا للمفعول، وقرأ أبي {تَبَيَّنَتِ الإنس} بمعنى تعارقت وتعالمت والضمير في {كَانُواْ} للجن المذكو فيما سبق وقرأ ابن مسعود {تَبَيَّنَتِ الإنس إن الجن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب} وهي قراءات مخالفة لسواد المصحف مخالفة كثيرة وفي القصة روايات فروى أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى فيسألها لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخرنوبة فسألها فقالت نبت لخراب هذا المسجد فقال: ما كان الله تعالى ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له واتخذ منها عصا وقال: اللهم عم على الجن موتى حتى يعلم أنهم لا يعلمون الغيب كما يموهون وقال لملك الموت: إذا أمرت بي فاعلمني فقال: أمرت بك وقد بقي من عمرك ساعة فعدا الجن فبنوا عليه صرحًا من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئًا على عصاه فقبض روحه وهو متكىء عليها وكانت الجن تجتمع حول محرابه أينما صلى فلم يكن جني ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر جني فلم يسمع صوته ثم رجع فلم يسمع فنظر إذا سليمان قد خر ميتًا ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة فأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارًا فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيًا فتبين أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لما لبثوا في العذاب سنة، ولا يخفى أن هذا من باب التخمين والاقتصار على الأقل وإلا فيجوز أن تكون الأرضة بدت بالأكل بعد موته بزمان كثير وأنها كانت تأكل أحيانًا وتترك أحيانًا.وأما كون بدئها في حياته فبعيد، وكونه بالوحي إلى نبي في ذلك الزمان كما قيل فواه لأنه لو كان كذلك لم يحتاجوا إلى وضع الأرضة على العصا ليستعملوا المدة، وروى أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الجن باتمامه فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب، وهذا بظاهره مخالف لما روى أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أسس بيت المقدس بعد الكعبة بأربعين سنة ثم خرب وأعاده داود ومات قبل أن يتمه، وأيضًا إن موسى عليه السلام لم يدخل بيت المقدس بل مات في التيه، وجاء في الحديث الصحيح أنه عليه السلام سأل ربه عند وفاته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، وأيضًا قد روى أن سليمان قد فرغ من بناء المسجد وتعبد فيه وتجهز بعده للحج شكرًا لله تعالى على ذلك.وأجيب عن الأول بأن المراد تجديد التأسيس، وعن الثاني بأن المراد بفسطاط موسى فسطاطه المتوارث وكانوا يضربونه يتعبدون فيه تبركًا لا أنه كان يضرب هنالك في زمنه عليه السلام، ويحتاج هذا إلى نقل فإن مثله لا يقال بالرأي فإن كان فأهلًا ومرحبًا، وقيل المراد به مجمع العبادة على دين موسى كما وقع في الحديث فسطاط إيمان.وقال القرطبي في التذكرة المراد به فرقة منحازة عن غيرها، مجتمعة تشبيهًا بالخيمة، ولا يخفى ما فيهما وإن قيل إنهما أظهر من الأول، وعن الثالث بأن المراد بالفراغ القرب من الفراغ وما قارب الشيء له حكمه وفيه بعد.واختير أن هذا رواية وذاك رواية والله تعالى أعلم بالصحيح مهما.وروى أنه عليه السلام قد أمر ببناء صرح له فبنوه فدخله مختليًا ليصفو له يوم في الدهر من الكدر فدخل عليه شاب فقال: له كيف دخلت علي بلا إذن؟ فقال: إنما دخلت بإذن فقال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح فعلم أنه ملك الموت أتى لقبض روحه فقال: سبحان الله هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا فقال له: طلبت ما لم يخلق فاستوثق من الاتكاء على عصاه فقبض روحه وخفي على الجن موته حتى سقط، وروى أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه، ولذا لم تقربه الجن وخفي أمر موته عليهم.ونظر فيه بأن سليمان كان بعد موسى بمدة مديدة وأفريدون كان قبله لأن منوجهر من أسباط أفريدون وظهر موسى عليه في زمانه، وعلى جميع الروايات الدالة على موته عليه السلام خروره لما كسرت العصا لضعفها بأكل الأرضة منها، ونسبة الدلالة في الآية إليها نسبة إلى السبب البعيد.ومن الغريب ما نقل عن ابن عباس أنه عليه السلام مات في متعبده على فراشه، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة أي عتبة الباب فلما خر أي الباب علم موته فإن فيه جعل ضمير {خَرَّ} للباب وإليه ذهب بعضهم، وفيه أنه لم يعهد تسمية العتبة منسأة، وأيضًا كان اللازم عليه خرت بتاء التأنيث ولا يجيء حذفها في مثل ذلك إلا في ضرورة الشعر، وكون التذكير على معنى العود بعيد فالظاهر عدم صحة الرواية عن الحبر والله تعالى أعلم.وحكى البغوي عنه أن الجن شكروا الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب وهذا شيء لا أقول به ولا أعتقد صحة الرواية أيضًا، وكان عمره عليه السلام ثلاثًا وخمسين سنة وملك بعد أبيه وعمره ثلاثة عشر سنة وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه ثم مضى وانقضى وسبحان من لا ينقضي ملكه ولا يزول سلطانه، وفي الآية دليل على أن الغيب لا يختص بالأمور المستقبلة بل يشمل الأمور الواقعة التي هي غائبة عن الشخص أيضًا. اهـ. .قال ابن عاشور: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}.عطف فضيلة سليمان على فضيلة داود للاعتبار بما أوتيه سليمان من فضل كرامةً لأبيه على إنابته ولسليمان على نشأته الصالحة عند أبيه، فالعطف على {لقد آتينا داود منا فضلًا} [سبأ: 10] والمناسبة مثل مناسبة ذكر داود فإن سليمان كان موصوفًا بالإِنابة قال تعالى: {ثم أناب} في سورة ص (34).والريح عطف على {الحديد} في قوله: {وألنا له الحديد} [سبأ: 10] بتقدير فعل يدل عليه {وألنا}.والتقدير: وسخرنا لسليمان الريح على نحو قول الشاعر:أي وحاملًا رمحًا.واللام في قوله: {لسليمان} لام التقوية أنه لما حذف الفعل لدلالة ما تقدم عليه قرن مفعوله الأول بلام التقوية لأن الاحتياج إلى لام التقوية عند حذف الفعل أشد من الاحتياج إليها عند تأخير الفعل عن المفعول.و {الريح} مفعول ثان.ومعنى تسخيره الريح: خلق ريح تلائم سيرَ سفائنه للغزو أو التجارة، فجعل الله لمراسيه في شطوط فلسطين رياحًا موسمية تهبّ شهرًا مشرّقة لتذهب في ذلك الموسم سفنه، وتهبّ شهرًا مغرّبة لترجع سفنه إلى شواطىء فلسطين كما قال تعالى: {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} في سورة الأنبياء (81).فأطلق الغدوّ على الانصراف والانطلاق من المكان تشبيهًا بخروج الماشية للرعي في الصباح وهو وقت خروجها، أو تشبيهًا بغدّو الناس في الصباح.وأطلق الرواح على الرجوع من النهمة التي يخرج لها كقول ابن أبي ربيعة: لأن عرفهم أن رواح الماشية يكون في المساء فهو مشتق من راح إذا رجع إلى مقره.وقرأ الجمهور {ولسليمان الريح} بلفظ إفراد {الريح} وبنصب {الريح} على أنه معطوف على {الحديد} في قوله: {وألنا له الحديد} [سبأ: 10].وقرأ أبو بكر عن عاصم برفع {الريحُ} على أنه من عطف الجمل و {الريحُ} مبتدأ و {لسليمان} خبر مقدم.وقرأه أبو جعفر {الرياح} بصيغة الجمع منصوبًا.و {القِطْر} بكسر القاف وسكون الطاء النحاس المُذاب.وتقدم في قوله تعالى: {قال آتوني أفرغ عليه قطرًا} في سورة الكهف (96).والإِسالة: جعل الشيء سائلًا، أي مائعًا منبطحًا في الأرض كمسيل الوادي. {وعين القطر} ليست عينًا حقيقة ولكنها مستعارة لمصب ما يصهر في مصانعه من النحاس حتى يكون النحاس المذاب سائلًا خارجًا من فساقي ونحوها من الأنابيب كما يخرج الماء من العين لشدة إصهار النحاس وتَوالي إصهاره فلا يزال يسيل ليصنع له آنية وأسلحة ودَرقًا، وما ذلك إلا بإذابة وإصهار خارقيْن للمعتاد بقوة إلهية، شبه الإِصهار بالكهرباء أو بالألسنة النارية الزرقاء، وذلك ما لم يؤته مَلك من ملوك زمانه.ويجوز أن يكون السيلان مستعارًا لكثرة القِطر كثرة تشبه كثرة ماء العيون والأنهار كقول كُثيّر: ويكون {أسلنا} أيضًا ترشيحًا لاستعارة اسم العين لمعنى مُذاب القطر، ووجه الشبه الكثرة.وقوله: {ومن الجن من يعمل بين يديه} يجوز أن يكون عطفًا على جملة {وأسلنا له عين القطر} فقوله: {من يعمل بين يديه} مبتدأ وقوله: {بإذن ربّه} خبر.و {من} في قوله: {من الجن} بيان لإِبهام {مَن} قدم على المبيَّن للاهتمام به لغرابته، وهو في موضع الحال.ولك أن تجعل {من يعمل} عطفًا على {الريح} في قوله: {ولسليمان الريح} أي سَخرنا له من يعمل بين يديه من الجن، وتجعلَ جملة {وأسلنا له عين القطر} معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.ومعنى {يعمل بين يديه} يخدمه ويطيعه.يقال: أنا بين يديك، أي مطيع، ولا يقتضي هذا أن يكون عملتُه الجنّ وحدهم بل يقتضي أن منهم عملة، وفي آية النمل (17) {من الجن والإِنس والطير} والزيغ: تجاوز الحد والطريق، والمعنى: من يَعْص أمرنا الجاري على لسان سليمان.وذِكر الجن في جند سليمان عليه السلام تقدم في سورة النمل.و {عذاب السعير} عذاب النار تشبيه، أي عذابًا كعذاب السعير، أي كعذاب جهنم، وأما عذاب جهنم فإنما يكون حقيقة يوم الحساب. {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}.و {يعملون له ما يشاء} جملة مبينة لجملة {يعمل بين يديه} [سبأ: 12].و {من محاريب} بيان ل {ما يشاء}.والمحاريب: جمع محراب، وهو الحصن الذي يحارب منه العدوُّ والمهاجِم للمدينة، أو لأنه يرمى من شرفاته بالحِراب، ثم أطلق على القصر الحصين.وقد سمَّوْا قصور غُمدان في اليمن محاريبَ غُمدانَ.وهذا المعنى هو المراد في هذه الآية.ثم أطلق المحراب على الذي يُخْتَلَى فيه للعبادة فهو بمنزلة المسجد الخاص، قال تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} وتقدم في سورة آل عمران (39).وكان لداود محراب يجلس فيه للعبادة قال تعالى: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} في سورة ص (21).وأما إطلاق المحراب على الموضع من المسجد الذي يقف فيه الإِمامُ الذي يؤمّ الناس، يُجعل مثل كوة غير نافذة واصلة إلى أرض المسجد في حائط القبلة يقف الإِمام تحته، فتسمية ذلك محرابًا تسمية حديثة ولم أقف على تعيين الزمن الذي ابتدىء فيه إطلاق اسم المحراب على هذا الموقف.
|